وثائق الاتصال وبلاغات الإخضاع: موروثات الوصاية في دولة القانون

وثائق الاتصال وبلاغات الإخضاع: موروثات الوصاية في دولة القانون

image

وثائق الاتصال وبلاغات الإخضاع: موروثات الوصاية في دولة القانون
إحدى أبرز علامات الخلل البنيوي في النظام الأمني والقضائي اللبناني

طوني كرم - "نداء الوطن"

في بلدٍ يعاني أصلاً من اهتزاز الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، تبرز مسألة "وثائق الاتصال" و"بلاغات الإخضاع" كإحدى أبرز علامات الخلل البنيوي في النظام الأمني والقضائي اللبناني. هذه الوثائق، التي تُستعمل كأداة أمنية لتقييد حرية آلاف المواطنين، تُعيد لبنان إلى مناخات دولة بوليسية تناقض جوهر العدالة وتتنافى مع مبدأ سيادة القانون.
تحرر لبنان من الوصاية السورية لكنه لم يتخلَّ عن أدوات الترهيب التي كانت سائدة في تلك المرحلة. حينها كان يكفي تقرير أمني أو وشاية مجهولة لزجّ الأفراد في متاهات التوقيف والتحقيق من دون مذكرة قضائية. وبعد الانسحاب السوري، ورغم كل التغييرات الشكلية في بنية الدولة، استمرت هذه الممارسات، وكأن لا شيء تغيّر فعلاً.

في العام 2014، وفي خطوة بدت آنذاك إصلاحية، وافق مجلس الوزراء على إلغاء وثائق الاتصال والإخضاع وكلف وزيري الداخلية والبلديات والعدل اقتراح مشروع تنظيم يتعلق بالإجراءات المتعلقة بالموضوع ورفعه إلى مجلس الوزراء. كما أصدرت النيابة العامة التمييزية التعميم رقم 62/ص/2014 الذي ألغى جميع بلاغات البحث والتحريّ الصادرة بحقّ الأشخاص المُعمّمة استناداً إلى وثائق الاتصال ولوائح الإخضاع الصادرة عن الأجهزة العسكرية والأمنيّة. إلا أن التنفيذ لم يحصل. تجاهلت الأجهزة الأمنية والعسكرية، القرار الحكومي، وتمردت على قرار السلطة التنفيذية، والذي يُفترض أن يُعد خرقاً فاضحاً لأبسط الضوابط القانونية. لا وزير الدفاع ولا وزير الداخلية قاما بمطالبة الأجهزة الخاضعة لهما بالالتزام بالقانون. والأسوأ، أن النيابة العامة التمييزية، والقاضي جمال الحجار، المعني الأولى بتنفيذ القرار، لا يزال يسمح لهذه الأجهزة باتخاذ إجراءات بناءً على وثائق يجب أن تسقط مفاعيلها بعد أن سبق وصدر قرار إلغائها.

تتعدى تداعيات هذه السياسة الأمنية حدود الإجراءات الشكلية، إذ يعيش عشرات الآلاف من المواطنين، المقدر عددهم ما بين 60 إلى 70 ألف شخص، تحت تهديد دائم بالتوقيف أو الاستدعاء أو سحب جواز السفر من دون أي مسوّغ قانوني. البعض منهم سبق أن خضع للتحقيق وأُطلق سراحه، لكن اسماءهم لا تزال تحت المجهر ومن شأن ذلك احتجازهم مجدداً "للتحقق من الوثيقة"، في عملية لا تنتهي.
ولا تقتصر محاولات وضع حدّ للانتهاكات العشوائية لحقوق الإنسان على هذا الحدّ، إذ سبق وأصدر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي تعميماً جديداً بتاريخ 7 كانون الثاني 2025، دعا فيه إلى إعداد اللوائح الإسمية للوثائق تمهيداً لإلغائها. لكن الصيغة التبسيطية التي ورد فيها التعميم والتي خلت من أي إلزام صريح بتنفيذ القرار الحكومي، فتحت الباب أمام تمييع جديد. النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار، بحسب مصادر مطلعة، لم يُعمم حتى الآن على النيابات العامة ضرورة اعتبار هذه الوثائق باطلة، بل تُركت للأجهزة الأمنية حرية التصرف. والنتيجة، لا تزال الانتهاكات قائمة، فيما الحكومة عاجزة عن فرض قراراتها.

مصارد حقوقيّة تؤكّد لـ"نداء الوطن" أن هذه القضية ليست إدارية ولا تقنية، بل تمس جوهر الكيان القانوني للدولة. لا يمكن المطالبة بقيام دولة المؤسسات بينما تُداس الحقوق تحت ذرائع أمنية وبتواطؤ قضائي صامت. فوثيقة الاتصال هي في جوهرها تقرير أمني من مخبر مجهول، يُعامل على أنه دليل إدانة، بينما يفترض أن القضاء وحده هو من يحدد التوقيف أو المنع من السفر، لا أي جهاز آخر.
الأمر الذي دفع إلى مطالبة المعنيين، قبل طرح تصورهم لإصلاح السلطة القضائية، بتطبيق قرارات الحكومة ووقف العمل بوثائق الاتصال ولوائح الإخضاع اليوم قبل الغدّ، وتوجيه تعميم واضح من النيابة العامة التمييزية بعدم الأخذ بأي وثيقة لا تستند إلى إشارة قضائية. وعلمت "نداء الوطن" أن رئيس الحكومة نواف سلام وعد باتخاذ الخطوات الجدية الكفيلة بوضع حدّ لخللٍ يمسّ بحقوق الإنسان، وذلك انطلاقاً من أن استمرار هذه الممارسات من شأنه أن يُعيدنا إلى منطق الدولة البوليسية ويضرب أسس العدالة التي يفترض أن تقوم عليها دولة القانون.