الحكومة تطلق انتخابات... "الحكومات المحلية"
قانون الإنتخاب... ثغرات بالجملة برسم الإصلاح الجذري
زيزي إسطفان - "نداء الوطن"
قصة قصيرة من وحي حمّى الانتخابات البلدية التي تجتاح البلدات اللبنانية: في إحدى البلدات خاضت اللائحة الفائزة في الانتخابات البلدية الأخيرة وما سبقها من انتخابات حملاتها المتكرّرة على أساس وعود بتنفيذ مشاريع إنمائية حيوية للبلدة. مرّت 28 عاماً على تسلّم رئيسها سدّة المسؤولية، ولم ينفّذ أي من هذه المشاريع إلّا ما ندر، فيما غاب الحدّ الأدنى من الشفافية والالتزام. تعالت الاتهامات من أهل البلدة بالفساد والسرقات والمحسوبيات. لكن ذلك كلّه لم يمنع «الريس» من إعادة الترشح مدعوماً بأحزاب فاعلة على قاعدة «كما تكونون يولّى عليكم»...
ما يحدث في هذه البلدة ليس استثناءً، بل يكاد يكون تعميماً وانعكاساً لصورة أوسع وأكثر تعقيداً لأزمة البلديات في لبنان. فرغم مرور أكثر من قرن على صدور أول قانون ينظّم عمل البلديات في البلاد، لا تزال المجالس البلدية تعاني من تحدّيات في الصلاحيات والتشريعات التي تقوّض دورها المفترض في التنمية المحلية. ولا تزال الثغرات في قانون الانتخابات البلدية تعيق وصول الأكفأ. فالقانون المعتمد حاليّاً، والذي يعود إلى العام 1977 مع تعديلات محدودة لاحقة، يعاني من ثغرات قانونية كبيرة تجعله غير مواكب لاحتياجات الحكم المحلي العصري، لا من حيث الصلاحيات، ولا من حيث آليات الرقابة والمحاسبة. والمشكلة لا تقتصر على النصّ القانوني وحده، بل تتعدّاه إلى التطبيق السيئ للقانون، وإلى العقلية التي تُدار بها الانتخابات البلدية، حيث تتحكّم الزبائنية السياسية والمنفعة الشخصية بخيارات عدد كبير من المرشحين والناخبين على حد سواء.
القانون البالي
يشرح الأستاذ الجامعي والمحامي في الاستئناف سلام عبد الصمد الذي أجرى عدة أبحاث حول قانون البلديات أن قانون البلديات يعاني من ثغرات لا يمكن إنكارها تقف حائلاً أمام تطوير عمل البلديات وأدائها. فالقانون أولاً بات قديماً يعود إلى المرسوم الصادر أيام الرئيس الياس سركيس، ورغم بعض التعديلات الطفيفة عليه لا يواكب العصر والتطوّر التكنولوجي الكبير الحاصل، ولا يأخذ في الاعتبار ما مرّ به لبنان من أزمات سياسية وعسكرية ومالية وأمنية. فالقانون هو عادة انعكاس للوضع القائم. وحين أقرّ هذا القانون كان يعكس المرحلة السابقة. اليوم، كل شيء تغيّر بدءاً بالكثافة السكانية والتغيّرات الديموغرافية وصولاً إلى احتياجات الناس والمناطق مروراً بالتطوّر التكنولوجي. فلمَ لا يكون هناك E municipality أو البلدية الإلكترونية التي تسهّل أمور الناس وشؤون البلدية وتحفّز الشفافية؟
من جهة أخرى، ثمّة ثغرات واضحة في هيكلية البلدية وفق ما يشرح المحامي المختص. فالمجلس البلدي منوط به السلطة التقريرية فيما السلطة التنفيذية في يد الرئيس. وهذا التضارب في الصلاحيات يعرقل العمل البلدي الصحيح، ويجعل دور المجلس البلدي شبه معدوم، إذ لمَ الحاجة إلى سلطتين؟ فالبلدية يجب أن تقرّر وتنفّذ لأن تضارب الصلاحيات والمشاحنات قد تؤدي إلى إيقاف تنفيذ المشاريع.
وتستمرّ لائحة الثغرات، وقد يكون أكثرها تأثيراً، تعدّد المرجعيات الرقابية التي تمارس على البلديات بين القائمقام والمحافظ ووزير الداخلية، وتوزيع الرقابة هذا، يساهم في ضعضعتها وتأخير تلبية احتياجات المواطنين وتمييعها، فيما المطلوب هيئة رقابية واحدة منوط بها تنفيذ الرقابة على البلديات إلى حين إقرار قانون اللامركزية الإدارية. أما الرقابة المالية من قبل ديوان المحاسبة وهيئة التفتيش المركزي، فيقول المتابعون عن كثب إنها ليست بذات فاعلية. والدليل، أن هيئة التفتيش راقبت أكثر من مئة بلدية ولم تصل إلى نتيجة تذكر.
اللامركزية الإدارية «العبارة السحرية» التي يخشاها البعض والكفيلة بنقل لبنان إلى مرحلة متقدّمة من الإنماء والتطور حيث يمكن أن تتحوّل كل بلدية إلى حكومة مصغّرة تتمتع باستقلال مالي وإداري، وتشرف على تلبية احتياجات المواطنين في نطاقها. فقانون اللامركزية الإدارية إذا أقرّ، من شأنه تعزيز دور البلديات وتحقيق الإنماء المتوازن في كل المناطق. ومع إقراره، لا تعود هناك حاجة إلى الرقابة على البلديات كونها تتحوّل إلى حكومة مصغّرة تقوم بدورها دون رقابة وتحاسب من قبل الناخبين.
هذه المحاسبة تبدو اليوم شبه غائبة. فالناخب لا يستطيع ممارسة رقابة على المجلس البلدي الذي انتخبه بسبب غياب الشفافية وغياب النصوص القانونية. يمكن للناخبين التوجه إلى وزير الداخلية أو المحافظ للطلب بإقالة البلدية، لكن القانون لم ينظم ذلك، ولم يحفظ للناس حقهم بالمطالبة باستقالة البلدية. يمكنهم الطلب إلى أعضاء البلدية الاستقالة حيث يقضي القانون بسقوط البلدية عند استقالة 51 % من أعضائها ويعلن القائمقام حلّها. وفي هذا الإطار يشرح المحامي عبد الصمد، أنه وفق ما يعرف قانوناً بالأصول المتوازية، فإن من ينتخب الرئيس ونائب الرئيس، له الحق بإنهاء خدماتهما، ومن يعيّن يمكن أن يعزل. إذاً، كل السلطة بيد المجلس البلدي. ولكن عدم إدراك المجلس القانون، وما أعطاه إياه من صلاحيات، يجعل أعضاءه غير مدركين صلاحياتهم وطرق ممارستها. ومن هنا، أهمية التوعية على مضمون القانون.
على الأرض، قد يحدث عزل للرئيس، لكن هذا من الأمور النادرة. فالرئيس غالباً، هو من يختار اللائحة الانتخابية ويتحكم بأعضائها، إلّا إذا تكوّن المجلس البلدي من لائحتين متناحرتين...
وتبقى الثغرة الأهم في قانون البلديات وفق المحامي سلام عبد الصمد، هي في تمويل الدولة للبلديات عبر الصندوق البلدي المستقل. وكلنا شهدنا على ما آلت إليه أحوال البلديات بعد الانهيار المالي، وعجز الحكومة عن تمويل الصندوق والبلديات، ما جعل هذه الأخيرة عاجزة حتى عن إتمام أبسط واجباتها، وبالكاد تستطيع الدفع لموظفيها وعمّالها، فيما إقرار قانون اللامركزية الإدارية، يعطي البلدية صلاحية تأمين مواردها المالية الخاصة بها بمعزل عن الحكومة ويؤمن لها الاستقلالية المالية لتتمكن من تنفيذ مشاريعها الإنمائية.
« قائدنا إلى الأبد»
من قابلناهم من أبناء البلدات، اتفقوا على مطلب موحّد وهو، تداول السلطة . إذ كيف يمكن لرئيس بلدية أن يستمرّ في الترشح لدورات ودورات على مبدأ «قائدنا إلى الأبد»، ضارباً عرض الحائط بمبدأ تداول السلطة ووجوب تمثيل الأجيال الجديدة؟ لم يحدّد القانون المرات التي يحق فيها الترشح لعضوية أو رئاسة البلدية وهذه ثغرة فاضحة؛ فمن يمنع الفاشل من إعادة الترشح لا سيّما إذا كان مدعوماً بالمال الانتخابي، أو من قبل الأحزاب التي تعمل لمصلحتها قبل مصلحة الناس؟ وكذلك يتساءل هؤلاء عن عدم وجود أي فقرة في القانون تفرض على رئيس البلدية أن يكون حاملاً شهادة جامعية في اختصاص يؤهله لتولي مسؤولية إدارية أو أقله أن يكون صاحب خبرة مهنية في المجال الإداري. فهل يكفي أن يخضع «الريس» العتيد لفحص في الإملاء ليكون مؤهلاً؟ أين الدم الجديد الذي يتيح أسلوباً جديداً في العمل والتفكير؟ أين دور الشباب؟ ولم لا يكون للقاصرين بلدية رديفة على غرار ما هو معمول به في كثير من الدول، إعداداً لهم للعمل البلدي لاحقاً، وتعبيراً عن اهتمامات هذه الفئة من المواطنين؟
ومن جهة ثانية، يتساءل الكثيرون، لماذا لا يلحظ قانون البلديات المقيمين في البلدة، ولا سيّما الفاعلين منهم، وحقهم باختيار المجلس البلدي في البلدة التي اختاروا السكن فيها؟ أليس هؤلاء أحق من المسجلين غير المقيمين وغير المعنيين بشؤون بلدتهم؟ ولماذا لا يحدّد القانون كوتا للنساء ويفرض وجود عدد منهن في أية لائحة بلدية؟
استغلال النفوذ الوجه القبيح للانتخابات البلدية
يضيء الناشط الاجتماعي والمسؤول عن جمعية اليازا زياد عقل على نقطتين مهمتين تلمّسهما على الأرض خلال الحملات الانتخابية. الأولى، عدم اعتماد حياد الموظفين الذي فرضه القانون الذي ينصّ على عدم جواز استخدام النفوذ لمصلحة أي مرشح أو لائحة. فرؤساء البلدية الذين يترشحون لولاية جديدة يستغلون قدرات البلدية الممولة من الموازنة العامة للبلدية من عمال وموظفين وسيارات ووقود وصفحات البلدية الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي في حملتهم الانتخابية على حساب المرشحين الآخرين بشكل مخالف للقانون. وفي بعض البلدات تحوّلوا إلى حزب قائم ضمن المنطقة، له زبائنيته والمنتفعون منه يربط بين المال والفساد، وتحوّل الحكم البلدي معهم إلى ديكتاتورية لا ترضى بأية مشاركة.
أما الثغرة الثانية، بحسب عقل، فتكمن في طريقة التصويت واللوائح البلدية التي لا تزال تتبع الأسلوب القديم على خلاف آلية الانتخاب النيابية، ولم تشهد أي تحسين وتطوير. فاللوائح لا تحمل صوراً ويمكن فيها التشطيب واستبدال الأسماء كتابة باليد ما يتيح ما يسمّى «بالتعليم» وهو مرادف للرشوة الانتخابية.
يرى الناشط الاجتماعي فادي نصر من جهته ثغرات وملاحظات كثيرة في إدارة الحملات الانتخاببية البلدية. فالمرشحون في غالبيتهم، لا يتقدمون على أساس تصور إنمائي مشترك، بل تجمع اللوائح أسماء متناقضة لا يربط بينها أي شيء مشترك. وإذا ضمّت اللائحة عناصر جيدة، يكون رئيسها مهتماً بمصلحته الخاصة فحسب. بينما اللائحة يجب أن تلبي طموح المجتمع المحلي بالتقدم والتطوير، وليس عصبية رئيس اللائحة وطموحاته الشخصية بالزعامة.
ختاماً، ورغم الحماوة الشديدة التي تسبق الانتخابات البلدية، لا يزال لبنان بعيداً من المفهوم الديمقراطي للانتخابات ولا تزال الزبائنية والولاءات العائلية هي معيار الفوز قبل صندوق الاقتراع ولا تزال المصالح العائلية والسياسية هي التي تتحكم بالترشيحات والتحالفات على حساب المشاريع و الخطط الإنمائية. ولا يزال الموسم الانتخابي، موسم وعود ومشاريع خيالية وشعارات استهلاكية غير قابلة للتنفيذ والمجالس المنتخبة ساحة لتقاسم النفوذ بدلاً من أن تكون أداة فاعلة لخدمة الناس.
هل يمكن لقانون جديد وعقلية جديدة أن يُعيدا للبلديات دورها كمحرّك أساسي في إعادة بناء الدولة من القاعدة إلى القمّة؟