مرّ التشييع ومُنحَت الثقة... الدولة تحتاج للعمل كخلية أزمة حتى إشعارٍ آخر!
مستقبل استقرار لبنان مرهون بمدى النجاح في إدارة الديناميكيات المعقدة
بقلم أليسا الهاشم
يعيش لبنان اليوم مرحلة انتقالية بالغة الخطورة والحساسية، وعلى السلطة التنفيذية المتمثلة برئيسي الجمهورية جوزاف عون والحكومة نواف سلام التصرف كخلية أزمة حتى إشعار آخر لأن الدنيا لن تصبح بعد بألف خير بين ليلة وضحاها.
وأمام الحكومة اللبنانية التي نالت الثقة بـ 95 صوتاً من بينها أصوات كتلة حزب الله مهلة ثلاثة عشر شهراً لانجاز ثلاث مهام رئيسية.
أولاً، تطبيق القرار 1701 وكل القرارات الدولية ذات الصلة كاملةً من دون اي انتقائية او مماطلة. ثانياً، إجراء الاصلاحات المالية والادارية.
ثالثاً، التحضير لانتخابات نيابية نزيهة وشفافة، واجرائها في موعدها، بما يسمح بإعادة تشكيل البرلمان بشكل يعكس التوازن السياسي الحقيقي في لبنان بعد انتهاء الدور العسكري لحزب الله.
من جهة اخرى، ما سنشهده من ضغط متزايد في الايام القليلة المقبلة عربياً واوروبياً واميركياً سيشكل رسالة واضحة الى المعنيين بأن المهلة المتاحة لتنفيذ القرار الدولي 1701 ليست مفتوحة، وتالياً فإن الدولة اللبنانية أمام خيارين إما التحرك بحزم وجدية والبدء بإجراءات تفكيك الترسانة العسكرية للحزب والتوصل إلى آلية لنزع سلاحه، وإما سيتحرك المجتمع الدولي بقيادة الراعي الأميركي بإتجاه تلزيم هذه المسؤولية لمن يستطيع انجازها. لا سيما وان التصريحات التي صدرت عن كبار المسؤولين الاميركيين خلال الأيام الماضية كانت على قدر كبير من الصراحة والأهمية وعلى قاعدة "من له أذنان فليسمع".
وفي هذا السياق، موقف الولايات المتحدة واضح من الوضع اللبناني، فهي لن تقبل باستمرار الوضع القائم على كافة الاراضي اللبنانية لاسيما لجهة سلاح حزب الله الوكيل الشرعي للنظام الايراني في لبنان، وهي تنتظر من الدولة اللبنانية أن تتخذ إجراءات حازمة لتنفيذ التزاماتها بشكل مستقل تماماً عن الهيمنة الايرانية، وهذا ما حاول رئيسا الجمهورية جوزاف عون والحكومة نواف سلام تظهيره خلال لقائهما الوفد الايراني الذي شارك في تشييع الامينين العامين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، من خلال تصريحين لافتين شكلا بداية تحول على مستوى العلاقات الرسمية اللبنانية – الايرانية.
ومعلوم ان الإدارة الاميركية مصممة على منع حزب الله من استخدام الأراضي اللبنانية كقاعدة لتمويل وتحريك شبكاته العسكرية، وهي ماضية في فرض معايير واضحة للسلام والأمن الإقليمي والدولي.
وفي موازاة ذلك، برز الدخول الروسي المباشر على خط التسويات الكبرى في الشرق الاوسط عبر تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف من الدوحة بأن أجتماع منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول في 14 آذار المقبل يهدف إلى مناقشة سبل تسوية الأوضاع بين إسرائيل وفلسطين، وإسرائيل ولبنان، وإسرائيل وسوريا. وموقف لافروف هذا يتماهى مع تصريحات مبعوث الرئيس الأميركي الى الشرق الاوسط ستيف ويتكوف الذي اعرب عن تفاؤله حيال إنضمام السعودية الى الاتفاق الإبراهيمي، وعن إمكانية انضمام سوريا ولبنان الى الاتفاق ايضا.
كذلك، كانت لافتة إشارة لافروف الواضحة الى وجوب تطبيق القرارات الدولية بما يؤشر الى إمكانية اقتراب توصل الى اتفاق شامل بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن كل البؤر المشتعلة من اوكرانيا الى انحاء الشرق الأوسط وايران وهي ملفات يسعى الرئيس دونالد ترامب الى الاسراع في حسمها او وضعها على سكة الحل في الاشهر الاولى من رئاسته.
إزاء هذا الحراك المتسارع، تبدو الخيارات أمام لبنان محدودة وهناك تساؤلات حول قدرة الدولة على اتخاذ خطوات ملموسة في مواجهة حزب الله، الذي يظل متشبثًا بأجندته الإيرانية على حساب الأجندة اللبنانية وأولوياتها، وفق ما رأيناه وسمعناه في تشييع نصرالله، وفي ظل خطاب الامين العام نعيم قاسم يومَها عن استمرار المقاومة، سواء كان كلامه ترجمة لحالة الانكار او تشبثاً بادعاء القوة او محاولة باهتة لترميم صورة الحزب امام مناصريه.
وبالتالي، فإن كل هذه الضغوط تضع الحكومة اللبنانية في موقف حرج؛ فبينما تسعى لتجنب التصعيد الداخلي، فإنها تجد نفسها مطالبة باتخاذ قرارات حاسمة قد تعمق الانقسام الداخلي.
وبالعودة الى مشهد يوم 23 شباط، فقد كشف عن واقع مقلق يعكس الفجوة العميقة بين مجتمع حزب الله والمجتمع اللبناني، حيث برز الحزب مجتمعاً عقائدياً ودينياً مغلقاً، يناقض بشكل نافر طبيعة المجتمع اللبناني بأطيافه الأخرى كافة.
وهذا الواقع ايضا، يضع الحكومة اللبنانية أمام اختبار استراتيجي بالغ الأهمية، حيث يتطلب الأمر اتخاذ إجراءات حاسمة للتعامل مع هذا الواقع الخطير المتمثّل بوجود قاعدة شعبية واسعة داخل النسيج اللبناني تتحكم بها ايران، والاستعداد لسيناريوهات متعددة في ظل المتغيرات الإقليمية لاسيما بعد خسارة حماس سيطرتها على قطاع غزة وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وتقلص نفوذ أذرع إيران العسكرية في العراق واليمن وانطلاق العصر الأميركي الجديد بقيادة الرئيس ترامب حيث لا مكان للمجموعات الارهابية ولا قدرة لهم على الاستمرار.
امام هذا الواقع، اصبح حزب الله القاعدة الأخيرة الأكثر تماسكاً للنظام الإيراني في المنطقة، وهو وبعد هزيمته العسكرية أمام إسرائيل قد خسر تماما دوره الذي كان يشكل جزءاً أساسياً من قوتها الإقليمية إلا ان ذلك زاد من خطورة مفاعيل وترددات انتهاء دوره الإقليمي في الداخل اللبناني، وبالتالي يواجه الحزب كما الدولة اللبنانية تحدياً سياسياً داخلياً كبيراً.
وانطلاقا من كل ما تقدم، فانه لا بدّ من طرح سلسلة من التساؤلات، ابرزها:
كيف سيتعامل الحزب مع واقعه الجديد وهو لا يزال يعيش حالة إنكار لتداعيات الضربة التي قصمت ظهره؟
هل هو مستعد لإجراء عملية نقد ذاتي قد تسهم في إعادة تموضعه كلاعب سياسي "عادي" ضمن اللعبة السياسية الداخلية؟
هل هو قادر على التعايش مع شركائه في الوطن تحت سقف الدستور، هو الذي تعود على مدى عقود على فرض قراراته على الآخرين والغائهم بفعل فائض قوة سلاحه؟
هل سيكون الحزب قادراً على احترام قواعد اللعبة الديمقراطية؟
كيف سيتصرف مع الانتخابات البلدية والبرلمانية المقبلة، في حال هُزم، او تقلصت حصّته او عدد نوابه؟
كيف سيتصرف إذا ما قررت الدولة المضي قدما بعملية تطهير مؤسسات الدولة من المحسوبيات والفساد؟
ماذا سيكون رد فعله متى استعاد القضاء حريته وتحرك باتجاه اعادة فتح التحقيقات في ملفات الاغتيالات وتفجير المرفأ؟
ماذا ستفعل الدولة اليوم لإدارة هذه التحولات واحتوائها؟ وما هي الخطط التي تضعها لمحاكاة واقع الحزب الجديد والحد من تداعيات هزيمته ولمواجهة كل الاحتمالات المطروحة؟
كيف سترسم الدولة إطار تحرك الحزب وتحدده؟ وكيف ستتمكن من تنفيذ الاجراءات المطلوبة حتى تستعيد ثقة اللبنانيين والمجتمع الدولي وتحصل على الدعم المطلوب لإعادة تكوين السلطة وبناء الدولة ومؤسساتها؟
في المقابل، المجتمع الدولي مستعد لدعم الدولة اللبنانية ششرط ان تكون هي مستعدة لدعم نفسها. من هنا، تبرز الحاجة الملحة للتحرك المكثّف والمنسق على خطي الرئاسة والحكومة، حيث إن الوقت ضيق، والتحديات كثيرة، والمخاطر كبيرة. وبالتالي تكتسب الجهود الدبلوماسية التي يقودها رئيس الجمهورية أهمية بالغة، إذ تُعد زياراته المرتقبة إلى الرياض والقاهرة فرصة استراتيجية لبناء تحالفات وتعزيز العلاقات مع القوى الإقليمية، مما يفتح أمام لبنان أبوابا لتحديد موقعه بشكل مؤثر في المشهد الجيوسياسي المتغير، يلاقيه دور بالغ الأهمية لوزير الخارجية يوسف رجي، الذي يتعين عليه مواصلة العمل على تعزيز الروابط الدبلوماسية والدفاع عن مصالح لبنان في ظل بروز تسويات كبرى في الأفق.
إذًا، مستقبل استقرار لبنان مرهون بمدى نجاح الدولة في إدارة هذه الديناميكيات المعقدة والعمل على تثبيت موقعها على الخارطة الإقليمية.